التجاهل يؤدي إلى
الجهل ، والتجاهل يعني عدم الرغبة بالمعرفة ، وعدم الرغبة بها بحد ذاته استكبارٌ
على الحقيقة وعلى الآخرين ، ومن هنا نفهم العلاقة بين التكبر والغباء و الجهل و سوء
النية وضعف المنطق وحب التسلط وتضخيم الأنا .. إذن الاختيار بين النجدين هو المسؤول
عن الذكاء والغباء ، وليست محددات جينية أو غير جينية ..
إنسانٌ تكبَّرَ ..
واحتقرَ .. و نأى بجانبه .. فأصبح لا يعرف الواقع ، {قالوا قلوبنا غلف} {لا نفقه
كثيراً مما تقول} {قست قلوبهم فهي كالحجارة} {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
يكسبون} {وفي آذانهم وقر} {عتل بعد ذلك زنيم} ، أي أن التفاهم معه صعب ، و كل ما
سبق هي صفات للضعف العقلي والجهل وقلة الحكمة .. سببها عدم اختيار الخير كخط حياة
مقابل المصلحة المادية المؤدية للشر والجهل إذا اختيرت وحدها .. قال تعالى {وأعرض
عن الجاهلين} ، لماذا الجهل أصبح صفة سيئة؟ لأنه يشير إلى عدم اهتمامهم أصلاً بأن
يعرفوا ، فأصبحوا جاهلين ..
التكبر لا يؤدي إلى علم بل يؤدي إلى جهل ، لهذا
سمى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن هشام بأبي جهل؛ لتكبّره ، فالتكبر يفضي
إلى حمق السلوك و ضعف التصور وعدم الواقعية ، لأنه بطر للحق، أي رفضه ، والعقل
السليم يُبنى على الحقائق كلها دون انتقاء ..
الجهل البريء هو لعدم وجود
ظروف متاحة للمعرفة ، لكن الجهل الاختياري هو بتجاهل المعرفة و عدم الرغبة فيها
اختياراً ، والتقليل من شأنها تبعاً لهوى النفس ، وهكذا التعصب ينتج جهلاً و ليس
العكس ..
كل المساوئ العقلية تنتجها المساوئ الأخلاقية .. إنسان ساء خلقه
فأصبح غبياً وجاهلاً وغير منطقي وغير دقيق ، أي : ساء خلقه فساء عقله .. و سوء
الخلق مرتبط بالاختيار ، فالاختيار الحقيقي ينتج عقلاً حقيقيا .. والاختيار الصناعي
غير الأخلاقي ينتج عقلاً مزيفاً وغير قادر على مواجهة العقل الحقيقي ، ولا دخل
للبيولوجيا ولا عمل الدماغ ..
بيدك إذن أن تصبح ذكياً أو غبياً ، جاهلاً أو
متعلماً ، حكيماً أو أحمقاً {يؤتي الحكمة من يشاء} .. الخير يقود إلى العقل السليم
وليس العكس ، والعقل السليم في الاختيار الأخلاقي السليم وليس في الجسم السليم كما
يقولون! بل إن الجسم السليم أيضاً مع الاختيار السليم ، لأن الصحة مع الحكمة ،
والمرض بشكل عام مع الحمق في تقارب .. لهذا سموا الطبيب حكيماً ..
إنها
النظرية العقلية الأخلاقية لتفسير القدرات العقلية و تفاوتها بين الناس والآراء و
صواب الرأي والحكمة ، والحكمة دائماً ملازمة لذوي الأخلاق العالية .. وكذلك العلم
الحقيقي .. وإلا فكيف يتوعد الله الجاهلين؟ ألا يُعذرون بجهلهم؟ إنه الجهل المقصود
لذاته، وليس الخارج عن الإرادة .. قال تعالى: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية
حمية الجاهلية} ، أي أن الحمية هي من أنتج الجهل ، و ليست العزلة هي التي تنتج
التعصب ، بدليل وجود متعصبين متطرفين في أكثر البيئات انفتاحاً على العالم ، ووجود
عقول منفتحة في أكثر البيئات انغلاقاً .. وهذا يشير إلى الاختيار و أنه سبب عدم
تطابق البشر على شيء واحد .. حتى لو كانوا في نفس البيئة ..
من لا تهمه
الحقيقة هو غير مهتم بالخير ، لأن الحقيقة تعني وضع الامور في نصابها و انصاف
المظلوم ، واعطاء من يستحق ما يستحق .. إذن أساس كل شيء جميل في الإنسان هو أن يحب
الحق و الخير والجمال كخيار وحيد ، سيدفعه هذا الحب للتقدم والتطور شيئاً فشيئاً
إلى أن يجد ضالته ويعرف ربه وجدوى وجوده، و من بحث عن شيء وهو جاد طول عمره فسوف
يجده .. كما قال أبو العتاهية :
وإن امرؤ قد سار خمسين حجة .. إلى منهلٍ ،
من وِرده لقريب
الخير يوصل إلى الحكمة وإلى العقل المحكم وإلى الله .. وليس
العقل ولا المعرفة ولا الثقافة هي التي تأتي بالخير لك ، بل العكس تماماً هو الصحيح
.. طلبك الخير هو الذي يجعلك عاقلاً حكيماً وعارفاً .. وكثرة الثقافة و القراءة
ليست شرطاً أن تنتج حكمة ، بل في كثير من الأحيان تنتج جهلاً و غسيل دماغ وتعصباً
لما قُرِئ ..
الله وصف الكفار المعاندين بالجهل وضعف العقل {قوم لا يعقلون}
، ولم يعذرهم رغم ذلك ، لأن جهلهم وعدم عقلانيتهم نتيجة وليست سبباً ، نتيجة سوء
أخلاقهم وليست سبباً في رفضهم ، والحساب دائماً على الأسباب والأخلاق وليس على
النتائج ، وعلى النيات وليس على الأفعال ..
وحبنا للإنسان العاقل والمتفهم
والمتنور ليس لأجل تلك الصفات بحد ذاتها ، بل لأجل الدافع الخيّر وراءها في ذلك
الشخص و احترامه له ، وإلا لأحببناها ولم نحبه .. فالذكي البارع في المكائد والشر
لا يُحب ولا يُحترم رغم ذكائه وبراعته!!
الاختيار الخيّر لا يدع صاحبه حتى
يضعه في أرقى المراتب ، حتى لو كانت خبراته قليلة .. وعدم اختيار الخير كخط حياة لا
يزال بصاحبه حتى ينزله إلى أدنى الدرجات ، ويفضح عقله حتى لو كان مليئاً بالإمكانات
والمؤهلات ، فالاختيار يَفضح و يُنجح ..
ليس المهم هو العلم ، بل الأهم هو القصد
من ذلك العلم ، و كل إناء بما فيه ينضح